[size=16]وبقي نموذج بطليموس هو المعمول به في علم الفلك حتى ظهر الفلكي الشهير كوبرنيكس في القرن السادس عشر وقرر أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية وتدور الكواكب بما فيها الأرض حولها.
لم يبني كوبرنيكس نظريته من فراغ بل اعتمد على كم هائل من الدراسات الفلكية التي أجراها العلماء من قبله وخاصة علماء المسلمين الذين استلموا قيادة المسيرة العلمية في العصور الوسطى.
فقد انتقد ابن الهيثم في القرن الحادي عشر من ناحية رياضية بحته نموذج بطليموس في مقالة له "شكوك حول بطليموس" وقال أنه نموذج غير قادر على تفسير كثير من الحركات الفلكية ولا بد إذا من تطويره.
وقد صرح البيروني كذلك في القرن الحادي عشر بأن الأرض تدور حول محورها وتدور كذلك مع بقية الكواكب حول الشمس حيث يقول بكل صراحة في كتابه "الآثار الباقية في القرون الخالية" "ليست الشمس هي سبب تفاوت الليل والنهار بل إنّ الأرض ذاتها هي التي تدور حول نفسها وتدور مع الكواكب والنجوم حول الشمس" ولكنه عاد ليقول بأن مثل هذا القول قد لا يصلح لأننا لا نكون في موضع نتمكن من التحقق من حقيقة هذا الدوران.
وقد قام بعض علماء الفلك المسلمين أمثال نصير الدين الطوسي ومؤيد الدين الأوردي بتطوير نماذج فلكية تتفوق في قدرتها على تفسير حركة الكواكب من نموذج بطليموس وهي عبارة عن دوائر متداخلة تدور حول الأرض أُضيف إليها دوائر مركزها خارج الأرض ودوائر أصغر مراكزها متحركة.
وقد قام العالم الفلكي الفذ ابن الشاطر الدمشقي في القرن الرابع عشر ببناء نموذج معقد كانت الشمس فيه مركز لحركات الكواكب وتتحرك هي بدورها حول الأرض وقد تمكن هذا النموذج من تفسير معظم الحركات الفلكية التي فشل نموذج بطليموس من تفسيرها وهو أقرب ما يكون للنموذج الذي وضعه كوبرنيكس فيما بعد وقد نشر نتائج أبحاثه في كتابه "تحرير نهاية السؤال في تصحيح الأصول".
وفي عام 1543م نشر كوبرنيكس نظرية جديدة تقول أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية وأن الكواكب بما فيها الأرض تدور حولها في مدارات مستقلة وأثبت كذلك أن الأرض تدور حول محورها دورة كاملة كل 24 ساعة فينتج عن ذلك ظاهرة الليل والنهار بينما تدور حول الشمس مرة كل عام مما ينتج عنها ظاهرة تغير الفصول.
|
لوحة قديمة كوبرنيكس الفلكي المشهور |
لقد قابل عامة الناس إدعاءات كوبرنيكس حول حركة الأرض بالسخرية بل تجاوز الأمر حد السخرية وقررت الكنيسة محاكمة كوبرنيكس وكل العلماء الذين يرون رأيه واتهموهم بالزندقة والكفر وقاموا بمصادرة وإحراق أبحاثهم ففر كوبرنيكس من روما حتى لا يتم القبض عليه وإلا كان مصيره الإعدام أو الحرق كما حدث لبعض العلماء.
وفي مقابل هذه السخرية من قبل عامة الناس كانت فرحة علماء الفلك بهذه النظرية غامرة فقد حلت هذه النظرية عدد لا يحصى من الألغاز التي كانت تحيرهم حول حركة الأجرام السماوية وخاصة كواكب المجموعة الشمسية.
إن الإثبات المباشر بأن الأرض في حركة دائبة حول محورها وحول الشمس لا يمكن أن يتم من قبل البشر وهم يعيشون على سطحها فلا بد لهم من الخروج خارج نطاقها ويقفوا على مرجع إسناد جديد ليتأكدوا من مثل هذه الحركات وهذا ما تم بالفعل في عصرنا هذا حيث تم مشاهدة الأرض وهي تدور حول محورها من قبل رواد الفضاء وهم على القمر أو من قبل كمرات المركبات الفضائية التي إرسلت للفضاء الخارجي.
أما كوبرنيكس فقد استخدم المنهج الاستقرائي (الإستدلالي) لإثبات أن الأرض تدور حول محورها وحول الشمس من خلال دراسة حركات الأجرام السماوية التي تملأ الفضاء من حولنا. إن منتهى العبقرية أن يكذب الإنسان حواسه التي توحي له بأن الأرض ساكنة لا تتحرك ويصدق الحسابات الرياضية التي تثبت أن الأرض في حركة دائبة. وليس الفضل في هذا للبشر بل الفضل كل الفضل لله الذي خلق هذا العقل العجيب الذي يستخدمه البشر لكشف أسرار هذا الكون.
يعتقد غالبية البشر في هذا العصر بأن الأرض غير ساكنة بل هي دائمة الحركة إما حول محورها أو حول الشمس ولو طلبت من أحد الناس أن يقنعك بطريقة ما بأن الأرض متحركة وليست ساكنة لما استطاع فعل ذلك إن لم يكن مختصا في الفيزياء أو في الفلك. وعلى هذا فإن معظم الناس تعتمد في إيمانها بظاهرة حركة الأرض على ما يقوله المختصون بخصوص هذا الأمر وذلك على افتراض أنهم صادقون فيما يدعون. وكما ذكرنا سابقا فإن كوبرنيكس اعتمد على المنهج الاستقرائي لإثبات أن الأرض متحركة وليست ساكنة وذلك بالإعتماد على أدله كثيرة يعضد بعضها بعضا جعلت كوبرنيكس يصل إلى قناعة تامة بأن الأرض ليست بساكنة. ومن الأدلة التي اعتمد عليها كوبرنيكس هو أن حساب حركات الأجرام السماوية تصبح سهلة جدا بافتراض أن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية بعد أن كانت بالغة التعقيد في حالة افتراض أن الأرض هي المركز. وكذلك فإنه من غير المعقول أن الشمس التي يفوق حجمها حجم الأرض بمليون مرة تدور حول هذه الأرض الصغيرة الحجم بل العكس لا بد أن يكون هو الصحيح.
|
رسم توضيحي للمجموعة الشمسية |
ومع اكتشاف قانون الجذب العام على يد نيوتن في نهاية القرن السابع عشر أصبحت عملية إثبات حركة الأرض وغيرها من الأجرام أكثر سهولة.
فهذا الكون لا يمكن أن يكون مستقرا إلا إذا كان كل جرم من أجرامه في حالة حركة مستمرة ولو حدث أن توقف أي جرم عن الحركة لأنجذب فورا إلى أقرب الأجرام إليه. ولهذا فقد اختار الله سبحانه نوعين من الحركة لهذه الأجرام حركة دائرية وأخرى خطية فالحركة الدائرية اختارها الله لحفظ الأقمار حول الكواكب والكواكب حول الشموس والشموس حول مراكز المجرات ولوقف هذه المتوالية اختار الله الحركة الخطية لحفظ المجرات من الإنجذاب لبعضها البعض حيث أنها تتحرك في خطوط مستقيمة باتجاهات خارجة من مركز الإنفجار العظيم وصدق الله العظيم القائل "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" يس 38-40.
ويقدر العلماء بشكل تقريبي عدد المجرات في الكون المشاهد بمائة بليون مجرة وتحتوي كل مجرة في المتوسط على مائة بليون نجم وما يتبع هذا النجم من كواكب وأقمار ويبلغ متوسط المسافة بين مجرتين متجاورتين 25 بليون بليون كيلومتر أو ما يعادل 2.5 مليون سنة ضوئية أما متوسط المسافة بين نجمين متجاورين فتبلغ في المتوسط سنتين ضوئيتين أو ما يعادل 20 ألف بليون كيلومتر وأما المسافة بين النجوم المتجاورة فتقاس بعشرات الملايين من الكيلومترات وصدق الله العظيم القائل "فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ" الواقعة 75-76. أما السرعات التي تتحرك بها هذه الأجرام في الفضاء فهي في غاية الضخامة فعلى سبيل المثال فإن الأرض تدور حول الشمس بسرعة 108 آلاف كيلومتر في الساعة والشمس تدور حول مركز المجرة يسرعة 800 ألف كيلومتر في الساعة أما المجرة فتندفع في خط مستقيم بسرعة تزيد عن مليوني كيلومتر في الساعة. وعلى الرغم من هذه السرعات الخيالية إلا أننا نعيش آمنين مطمئنين على سطح هذه الأرض التي نحسبها ثابتة لا تتحرك أبدا.
وعلى ضوء هذا الشرح نعود لتدبر دلالات قوله تعالى "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ" النمل 88.
أما الحقيقة الأولى التي نستخلصها من هذه الآية هي أن الناظر إلى الجبال يظن أنها جامدة أي ساكنة لا تتحرك أبدا وهذه حقيقة لا ريب فيها أبدا فلا يمكن لأحد من البشر أن يحس بحركة الأرض ولا يمكن لهم كذلك قياس سرعتها بأي جهاز مهما بلغ تعقيد تركيبه.
أما الحقيقة الثانية فهي التأكيد على أن الجبال ليست ساكنة بل هي متحركة لقوله تعالى "وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ" وهذه هي الحقيقة التي لم يتمكن البشر من اكتشافها إلا بعد مرور ما يقرب من ألف عام من ذكر القرآن الكريم لها. إن إختيار الجبال كمثال للتدليل على حركة الأرض هو اختيار في غاية الحكمة فلو راقب مشاهد حركة الأرض من على ظهر القمر أو من على ظهر مركبة فضائية فإن الجبال البارزة من سطح الأرض هي وحدها التي تكشف عن حركة الأرض حول محورها ففي غياب علامات واضحة على سطح الأرض فإنه من الصعب اكتشاف مثل هذه الحركة.
ولكي يوضح الله سبحانه وتعالى للبشر كيف يمكن للشيء أن يبدو ساكنا في أعين الناظر له وهو في الحقيقة في حركة دائمة ضرب لهم مثلا في ظاهرة مماثلة وهي حركة السحاب في السماء.
إن السحاب إذا ما كان متصلا ومتجانسا وليس على شكل قطع ويغطى مساحة واسعة من السماء فإنه من الصعب جدا على الناظر إليه أن يحس بحركته أبدا رغم أن الرياح تسوقه بسرعات عالية.
وحتى في حالة السحاب الرقيق الذي تتخلله فتحات تنفذ من خلالها أشعة الشمس فإن الناظر إليه يرى الشمس تتحرك بسرعة عالية من خلفه بينما يبدو السحاب ساكنا لا يتحرك.
ومما يؤكد على أن هذه الآية تتحدث عن ظاهرة تحدث في حياتنا الدنيا وليست في الآخرة كما يقول بعض المفسرين هو تعقيب الله سبحانه وتعالى عليها بقوله "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ". فالله ليس بحاجة لأن يدلل على بديع صنعه في يوم تكون الجبال فيه كالعهن المنفوش والأرض غير الأرض والسموات غير السموات إلى غير ذلك من مشاهد يوم القيامة المختلفة. وسواء أكانت الآية تتحدث عن حال الجبال في الدنيا أم في الآخرة فإن تقريرها لمبدأ نسبية الحركة يبقى قائما وحتى لو كانت تصف حال الجبال في الآخرة فإن المبدأ الذي أوردته ينطبق تماما على حال الجبال في الدنيا كما أثبت ذلك العلماء.
وحتى المثال الذي ضربه الله سبحانه وتعالى لتقريب معنى نسبية الحركة في حركة الجبال إلى أذهان البشر وهو حركة السحاب يؤكد على هذا المبدأ أيضا فإذا ما أراد شخصا أن يشرح لشخص آخر مبدأ نسبية الحركة فخير مثال يمكن أن يستشهد به هو حركة السحاب.
وعلى هذا فإن هذه الآية توضح مبدأ نسبية الحركة من خلال ظاهرتين ظاهرة يمكن للبشر التأكد منها بأنفسهم بطريقة مباشرة وهي حركة السحاب في السماء حيث من السهل لأي شخص من خلال مراقبة أنواع السحب المختلفة أن يتأكد من حركتها بطرق مختلفة رغم أنه يراها ساكنة لا تتحرك.
أما الظاهرة الثانية وهي حركة الجبال فإنه من المستحيل إثباتها بشكل مباشر ونحن نقف على سطح الأرض كما صرح بذلك البيروني ويتطلب إثباتها طرق غير مباشرة كما شرحنا ذلك آنفا ولذلك شبه الله حركة الجبال بحركة السحاب لكي تستوعبها عقول البشر.
إن منتهى الإتقان في الصنع أن يعيش البشر على ظهر أرض يتحرك سطحها بسرعة قد تصل إلى ألف وسبعمائة كيلومتر في الساعة عند خط الاستواء وتدور بكاملها حول الشمس بسرعة 108 آلاف كيلومتر في الساعة وتدور مع المجموعة الشمسية حول مركز المجرة يسرعة 800 ألف كيلومتر في الساعة أما المجرة فتندفع بما فيها من نجوم في خط مستقيم بسرعة تزيد عن مليوني كيلومتر في الساعة ثم لا يحسون أبدا بهذه الحركات بل إن بعضهم يرفض أن يصدق أن الأرض تتحرك بمن عليها! إن من أكبر النعم التي أنعم الله بها على البشر أنهم يعيشون آمنين مطمئنين على سطح هذه الأرض التي تسبح في هذا الكون بسرعات خيالية دون أن يشعروا بها ودون أن تصطدم بهذا العدد الهائل من النجوم والكواكب التي حولها وصدق الله العظيم القائل "وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" إبراهيم 33-34.
[/size]